لطالما شكل الذهب في العراق أكثر من مجرد معدن نفيس يُستخدم في الزينة؛ فقد كان وما زال، رمزاً للأمان الاقتصادي، ووسيلة لحفظ الثروة في وجه الأزمات. في بلدٍ عرف الكثير من التحولات السياسية والاقتصادية، من الممالك القديمة إلى العصور الحديثة، ظل الذهب حاضراً في تفاصيل الحياة اليومية للعراقيين، يرافقهم في الأفراح والمحن على حد سواء. اليوم، ومع التحديات الاقتصادية المتتالية التي يعانيها العراق، يعيد الكثيرون اكتشاف الذهب ليس فقط كقطعة مجوهرات، بل كأداة استثمارية تراهن على الاستقرار في زمن الاضطرابات. فما سر هذا الارتباط العميق؟ ولماذا يواصل الذهب احتلال مكانته الرفيعة في قلوب وأذهان العراقيين؟
لماذا يُعتبر الذهب خياراً مفضلاً للعراقيين لحفظ الثروة؟
في مجتمع يتسم بالحذر تجاه المستقبل، يجد العراقيون في الذهب ملاذاً آمناً، يمنحهم طمأنينة مادية وسط مخاوف فقدان المدخرات بسبب التضخم أو الانهيارات الاقتصادية.
يعود تفضيل الذهب إلى عدة أسباب متداخلة:
- قابلية النقل والتداول: يمكن تحويل الذهب بسهولة إلى نقود أو مقايضته بسلع وخدمات، مما يجعله أداة حفظ قيمة مرنة.
- الحماية من التقلبات النقدية: مع تذبذب قيمة الدينار العراقي عبر العقود، برز الذهب كوسيلة للتحوط من فقدان القوة الشرائية.
- التراث الثقافي: ترسخت قناعة عبر الأجيال بأن الذهب هو ميراث ثمين، يورث من الآباء إلى الأبناء، بما يحمله من قيمة مادية ومعنوية.
- انعدام الثقة بالقطاع المصرفي: بسبب الأزمات المصرفية المتكررة، يفضل العديد من العراقيين الاحتفاظ بثرواتهم على هيئة ذهب بدلا من الإيداع في البنوك.
باختصار، يمثل الذهب للعراقيين ركيزة ثابتة في عالم متغير، يحفظون به أموالهم وأحلامهم معا.
التاريخ العريق لتداول الذهب في العراق
يعود تاريخ العلاقة بين العراق والذهب إلى آلاف السنين.
- في بلاد الرافدين، حيث قامت أولى الحضارات الإنسانية مثل السومرية والبابلية، كان الذهب يستخدم في صك النقود وصناعة الحلي والمجوهرات وحتى تزيين المعابد.
- السومريون (4000 ق.م تقريباً) عرفوا الذهب واستخدموه في طقوسهم الدينية.
- البابليون اشتهروا بمهارتهم في صياغة الذهب، وكانت أسواق بابل من أشهر مراكز تجارة الذهب في العالم القديم.
- في العصور الإسلامية، خاصة في زمن الخلافة العباسية ببغداد، بلغ تداول الذهب ذروته، مع سك الدنانير الذهبية التي كانت معياراً مالياً للعالم الإسلامي.
مع مرور الزمن، لم ينقطع هذا التقليد؛ إذ حافظ العراقيون على ارتباطهم بالذهب، سواء عبر تخزينه أو تداوله، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية الاقتصادية للبلاد.
أثر التغيرات السياسية والاقتصادية على سوق و أسعار الذهب في العراق
شهد العراق تقلبات سياسية حادة أثرت بشكل مباشر على حركة سوق و أسعار الذهب في العراق .
- من الحروب الإقليمية إلى العقوبات الاقتصادية، ومن تغيير الأنظمة إلى الهزات الأمنية، كانت كل مرحلة تترك بصمتها على سعر الذهب ونمط تداوله.
- خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، ارتفع الطلب على الذهب كمخزن آمن للثروة.
- أثناء حصار التسعينات، استخدم كثيرون الذهب كوسيلة للمعيشة، فباعوا مدخراتهم لتأمين احتياجاتهم الأساسية.
- مع الغزو الأمريكي 2003 وما تبعه من فوضى، لجأ المواطنون مجدداً إلى شراء الذهب لحماية مدخراتهم من الانهيار النقدي.
حتى اليوم، لا تزال أي أزمة سياسية أو اضطراب أمني ينعكسان مباشرة على أسواق الذهب، إذ يقفز الطلب عليه فورا مع كل تهديد للاستقرار.
كيف يستخدم العراقيون الذهب في الادخار والتجارة اليومية؟
الذهب في العراق ليس مجرد زينة تُرتدى في المناسبات؛ إنه مخزون ثروة يُراكم ويُستخدم حسب الحاجة.
- الادخار: غالبية العائلات العراقية، وخصوصا في المناطق الريفية والمدن الصغيرة، تفضل شراء قطع ذهبية صغيرة (مثل الليرات الذهبية أو الأونصات) وتخزينها بعيدا عن أعين البنوك.
- المناسبات الاجتماعية: شراء الذهب يعد جزءاً رئيسياً من طقوس الزواج، حيث يُقدّم العريس مهرا لعروسه على هيئة مصوغات ذهبية.
- التجارة اليومية: بعض التجار يعتمدون الذهب في معاملاتهم، ويستخدمونه كضمان للصفقات أو كوسيلة لتسوية الديون الكبيرة بعيداً عن النظام المصرفي.
هذا الاستخدام المتعدد عزز من مكانة الذهب كأداة عملية وأساسية في حياة العراقيين اليومية، متجاوزاً كونه مجرد استثمار بعيد المدى.
أسواق و أسعار الذهب في العراق : من الأسواق التقليدية إلى الحديثة
تنبض أسواق الذهب في العراق بالحياة، وتروي قصصا عن ماضٍ أصيل وحاضر متجدد.
- الأسواق التقليدية: لا تزال أسواق مثل “سوق الشورجة” في بغداد و”سوق الذهب في النجف” تحافظ على طابعها القديم، حيث تنتشر محلات الذهب الصغيرة، وتغلف الروائح العتيقة أروقة الأسواق الضيقة.
- الأسواق الحديثة: مع تطور البنية التحتية، ظهرت مراكز تجارية حديثة تعرض الذهب المصنّع بأحدث التصاميم، مع استخدام تقنيات البيع الحديثة مثل أنظمة الوزن الرقمية وفواتير الشراء الرسمية.
رغم هذا التطور، تظل الثقة الشخصية بين البائع والمشتري هي العامل الأهم في إتمام الصفقات، فالعراقي بطبيعته يفضل التعامل مع الصائغ الذي يعرفه ويثق به.
الذهب كاستثمار آمن وسط الأزمات والتقلبات الإقليمية
في بيئة محفوفة بالمخاطر، يصبح الذهب الخيار المنطقي لمن يسعى إلى الحفاظ على أمواله. ففي العراق، حيث تتداخل الأزمات المحلية مع الاضطرابات الإقليمية، أثبت الذهب أنه الاستثمار الأكثر مرونة وصموداً. عندما تتراجع أسعار النفط، العمود الفقري للاقتصاد العراقي، يلجأ المستثمرون إلى الذهب. في أوقات التوترات السياسية، ترتفع أسعار الذهب المحلية نتيجة الطلب المتزايد. حتى في ظل الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا، شهد سوق الذهب العراقي ارتفاعاً ملحوظاً، مما أثبت مرة أخرى أن الذهب هو المأوى الأخير للثروات. تحمل العراقيون دروس الماضي، فهم يعرفون أن الذهب، رغم تقلب أسعاره اللحظية، يظل على المدى الطويل حصنا منيعا أمام الرياح العاتية.
الخاتمة: هل يواصل الذهب دوره كمصدر أمان مالي للعراقيين؟
من خلال تتبع التاريخ والسلوك الاجتماعي والاقتصادي للعراقيين، تبدو الإجابة واضحة: نعم، سيبقى الذهب الركيزة الأساسية للأمان المالي في العراق. رغم ظهور أدوات استثمارية جديدة مثل الأسهم والعملات الرقمية، إلا أن للذهب سحره الخاص، المتجذر في وعي الجماعة، والمثبت عبر التجربة التاريخية. يظل الذهب في العراق أكثر من مجرد سلعة؛ إنه حكاية أمان، قصة بقاء، وشاهدٌ على مرونة الإنسان العراقي أمام صروف الدهر. في كل بيت عراقي، بين خزائن الملابس وأدراج الأسرار، تلمع قطعة ذهبية… تروي حكاية شعب اختار أن يحتمي ببريق الذهب حين خفتت أنوار الاقتصاد.
المصادر والمراجع
موقع المراقب المتخصص في تقييم أفضل شركات التداول في العراق